الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وحين ذكر صبر أيوب وانقطاعه إليه ذكر غيره من الأنبياء المشهورين بالصبر منهم إسماعيل عليه السلام، صبر على الانقياد للذبح وعلى الإقامة بوادٍ لا زرع فيه ولا ضرع، وصبر على بناء البيت ورفع قواعده، فلا جرم أخرج الله ببركة ذلك من صلبه خاتم النبيين، ومنهم إدريس وقد مر ذكره في سورة مريم. قال ابن عمر: بعث إلى قومه داعيًا لهم إلى الله فأبوا فأهلكهم الله ورفع إدريس إلى السماء. ومنهم ذو الكفل قيل: هو زكريا وعلى هذا فقد تقدمت قصته أيضًا.وفي هذا القول نظر، لأن قصة زكريا تجيء عن عقيب فيلزم التكرار. وقيل: هو إلياس وكان خمسة من الأنبياء ذوي اسمين: إسرائيل ويعقوب، وإلياس وذو الكفل، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد. وقيل: يوشع بن نون سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله دينًا ودنيا، أو لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد: إنه لم يكن نبيًّا ولَكِن كان عبدًا صالحًا، وقال الحسن والأكثرون: إنه من الأنبياء وهذا أقرب لأنه معطوف عليهم معدود فيما بينهم. يروى عن ابن عباس أن اليسع أو نبيًّا آخر في بني إسرائيل قربت وفاته فأراد أن يستخلف رجلًا على الناس فقال: من يقبل مني خلافتي على أن يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي بين الناس فلا يغضب؟ فقام رجل وقال: أنا أتكفل لك هذه الثلاثة فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن، فحسده إبليس فأتاه وقت القيلولة فقال: إني لي غريمًا قد ظلمني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة وعاد إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح، ثم أتاه من الغد وقال مثل ذلك حتى شغله عن القيلولة وهكذا في اليوم الثالث. وقيل: إنه في اليوم الثالث قال للبواب: قد غلب على النعاس فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة البيت ودق الباب من داخل، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال: أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ في البيت فقال له: أتنام والخصوم على الباب فعرفه وقال: إبليس؟ قال: نعم. أعييتني في كل شيء فعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بالكفالة. ولا خلاف أن ذا النون هو يونس لأن النون هو المسكة والاسم إذا دار بين أن يكون لقبًا محضًا وبين أن يكون مقيدًا فحمله على المقيد أولى. واختلفوا في أن وقوعه في بطن الحوت كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعد.أما القول الأول فعن ابن عباس أن يونس وقومه كانوا من فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفًا وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبيًّا قويًا فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فقال له الملك: من ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء؟ فقال: يونس بن متى. فإنه قويّ أمين. فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال له يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضبًا للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوما هناك وسفينة فركب معهم فاضطربت السفينة حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاحون: هاهنا رجل عاصٍ أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح، إلا وفيها رجل عاصٍ، ومن عادتنا في مثل هذا البلاء أن نقترع فمن خرجت له القرعة ألقيناه في البحر حتى تسلم السفينة.فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس. فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فابتلعه حوت، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنًا له ولم أجعله طعامًا لك. ثم نجاه الله من بطن الحوت فنبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرتها حتى اشتد، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له. أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب سلامتهم؟. فتوجه يونس نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فقال لملكهم: إن الله أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل. فقالوا: ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم، فلو كان كما تقول لمنعنا الله منكم. فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله إليه قل لهم: إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب. فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه. فقال علماؤهم: اطلبوه فإِن كان في المدينة فليس ما ذكره بشيء، وإن كان قد خرج فهو كما قال. فطلبوه فلم يجدوه، فلما أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم وغنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات، فلما طلع الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت المواشي فرفع الله عنهم فبعثوا إلى يونس وآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل.القول الثاني وعليه أكثر المفسرين: أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم كما مر في سورة يونس. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه القصة من وجوه:الأول: أنه ذهب مغاضبًا لربه هكذا فسره ابن عباس وابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد وابن جبير ووهب واختاره ابن قتيبة ومحمد بن جرير، ومن المعلوم أن مغاضبة الله من أعظم الذنوب. ولئن سلم أنه كان مغاضبًا لقومه فذلك ايضًا محظور لأنه كان يجب أن يصبر معهم.الثاني: قوله: {فظن أن لن نقدر عليه} وهو شك في قدرة الله.الثالث: اعترافه بأنه من الظالمين والظلم من صفات الذم.الرابع: إخبار الله تعالى في موضع آخر بقوله: {فالتقمه الحوت وهو مليم} [الصافات: 142] والمليم ذو الملامة.الخامس: قوله للنبي صلى الله عليه وسلم {ولا تكن كصاحب الحوت} [القلم: 48] وقال في موضع آخر {فاصبر كما صبر ألوا العزم} [الأحقاف: 35] والجواب أنه عليه السلام غضب لأجل ربه أنفة لدينه وبغضًا للكفر وأهله، وغاضب قومه بمفارقته كي يخوّفهم حلول العقاب عليهم عندها. فغاية ما في الباب أن تلك المغاضبة ترك الأولى وهو الصبر على مشاق الرسالة بعد ادائها إلى أن يأذن الله له في المهاجرة. وعن الثاني أن معنى. {لن نقدر عليه} لن نضيق كقوله: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الرعد: 26] {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7] فهو من القدر لا من القدرة، ويجوز أن يكون من القدر بمعنى القضاء. قال الزجاج: يقال قدر الله الشيء قدرًا وقدره تقديرًا. والمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وابن عباس في رواية واختاره الفراء والزجاج. يقال: قدر الله عليه الضراء وقدر له السراء كما يقال: قدر القاضي على فلان أوله. ولئن سلمنا أنه من القدرة فالمراد القدرة بالفعل أي فظن أن لن نعمل فيه قدرتنا، فالقدرة غير وإعمالها غير، فظن انتفاء الأول كفر دون الثاني أو هو وارد على سبيل التمثيل والاستعارة أي كانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله، أو هو استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه: عن ابن زيد. سلمنا الكل لَكِن هذه الواقعة لعلها قبل رسالته كما حكينا ومثل هذا الظن في حق غير الأنبياء لا يبعد بوسوسة الشيطان، ولَكِن المؤمن يرده بعد ذلك بالبرهان. وعن البواقي أن الكل راجع إلى ترك الأولى ونحن لا ننكر ذلك وكفى بذكر يونس في عدد الأنبياء الصابرين الصالحين دليلًا على أنه لم يصدر عنه شيء ينافي عصمته والله تعالى أعلم.أما قوله: {فنادى في الظلمات} فمعنى الجمع راجع إلى شدة الظلمة وتكاثفها أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله: {يخرجونهم من النور إلى الظلمات} [البقرة: 257] وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر. وقيل: إن الحوت إذا عظم غوصه في البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة. ومعنى {أن لا إله إلا أنت} أي لا إله إلا أنت أو بأنه لا إله إلا أنت {سبحانك} تنزيه له عن كل النقائص. منها الظن المذكور على أي وجه فرض، ومنها العجز عن تخليصه، ومنها خلو ذلك الفعل عن حكمة كاملة. {إني كنت من الظالمين} بالفرار من غير إذن وأنا الآن من التائبين وفيه من حسن الطلب ما فيه فلذلك قال: {فاستجبنا له} ثم بين الاستجابة بقوله: {ونجيناه من الغم} أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت وبسبب خطيئته {و} كما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا {كذلك ننجي المؤمنين} من كل كرب إذا استغاثوا بنا.عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» وعن الحسن: ما نجاه الله إلا إقراره على نفسه بالظلم. وقد بقي في الآية بحث لفظي وهو أن بعض أهل العربية غلطوا عاصمًا في قراءته {نجي} بالتشديد والنون لا تدغم في الجيم. واستخرج بعضهم له وجهًا وهو أن يكون {نجي} فعلًا ماضيًا مجهولًا من التنجية لَكِنه أرسل الياء وأسند الفعل إلى المصدر المضمر ونصب المؤمنين بذلك المصدر أي نجى نجاء المؤمنين كقولك ضرب الضرب زيدًا ثم ضرب زيدًا على إضمار المصدر، وأنشد ابن قتيبة حجة لهذه القراءة:
وقال أبو على الفارسي وغيره من الأئمة المحققين: إن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما الوجه الصحيح في قراءة عاصم أن يحمل ذلك على الإخفاء، فلعل الراوي التبس عليه فظنه إدغامًا. ثم بين انقطاع زكريا وتبتله غليه رغبة فيمن يؤنسه ويعينه في أمر دينه ودنياه وإن انتهى الحال به وبزوجته في الكبر إلى حد اليأس من ذلك عادة. وفي قوله: {وأنت خير الوارثين} وجهان: أحدهما أنه ثناء على الرب بأن مآل كل الأمور إليه فيكون مؤكدًا لما فوض إليه أمر الولد. والثاني أنه اراد إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث. وفي إصلاح زوجه وجوه: منها أنها جعلت صالحة للولادة بعد عقرها. ومنها أنها جعلت حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق، ولا شك أن حسن خلق الزوج نعمة عظيمة. ومنها أن الإصلاح يتعلق بأمر الدين كأنه سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعًا. ويرد على الوجه الأول إن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد، والجواب أن الواو لا تفيد الترتيب أو أراد بالهبة إرادة الهبة. أما الضمير في قوله: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} فقد قيل: إنه عائد إلى زكريا وولده وأهله. وقال جار الله: إنه للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمسارعتهم في تحصيل الخيرات، وهذا من أجلّ ما يمدح به المؤمن لأنه يدل على الجد والرغبة في الطاعة. {ويدعوننا رغبًا} في ثوابنا {ورهبًا} عن عقابنا. ومعنى {خاشعين} قال الحسن: ذللًا لأمر الله. وقيل: متواضعين. وعن مجاهد: الخشوع الخوف الدائم في القلب. وفي تقديم الجار والمجرور على {خاشعين} إشارة إلى أنهم لا يخشون أحدًا إلا الله. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه الذي إذا ارخى ستره وأغلق بابه رأى الله منه خيرًا ليس هو الذي يأكل خشبًا اي علقًا ويبلس خشنًا ويطأطئ رأسه.ولما فرغ من ذكر الرجال الكاملين ذكر من هي سيدة نساء العالمين فمدحها بإحصان فرجها إحصانًا كليًا من الحلال والحرام جميعًا حتى إنها منعت جبرائيل جيب درعها قبل أن عرفته. والنفخ فيها عبارة عن إحياء عيسى في بطنها أي فنفخنا الروح في عيسى فيها كقول الزامر فنفخت في بيت فلان أي نفخت في المزمار في بيته، أو المراد وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا- وهو جبرائيل- لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ غلى جوفها. وهذا البيان هو المراد في سورة التحريم فلذلك قال: {فنفخنا فيه} [التحريم: 12] أراد فرج الجيب أو غيره. وإنما قال: {وجعلناها وابنها آية للعالمين} لأنه أراد أن مجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير أب. اهـ.
|